تشكل صناعة الأسمنت والخرسانة ركنًا أساسيًّا لأي نهضة عمرانية في أي دولة تسعى لتطوير قطاع الإنشاءات والتعمير لديها، إلا أن هذا النشاط يواجه مشكلة أساسية في ظل حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الصادرة عنه.
هذا القطاع الحيوي يُصدر نحو 7% من انبعاثات الكربون العالمية، أو ما يوازي 1.6 مليار طن متري سنويًا، وهو رقم ضخم مقارنة بقطاعات صناعية أخرى.
نسبة الانبعاثات الصادرة من قطاع الأسمنت، مقاربة لتلك التي تحدثها بلد بحجم روسيا رابع أكبر دولة في العالم مسؤولة عن الانبعاثات، بعد كل من الصين والولايات المتحدة والهند.
وفي خطوة قد بدت مستحيلة قبل عدة عقود، بدأ عدد من الشركات الرائدة في قطاع الأسمنت على مستوى العالم بتبني مفاهيم جديدة تهدف إلى تحويل هذا القطاع إلى "صناعة خضراء"، عبر الحد من الانبعاثات الصادرة عنه وفقًا للتعهدات التي قطعتها ضمن المبادرات المناخية.
ومن بين أبرز التقنيات التي يمكن لتلك الشركات الاعتماد عليها في طريق تحولها نحو الأخضر احتجاز وتخزين الكربون، لكن انتشار تلك التقنية يواجه تحديًا نظرًا لعدم توافرها في كل مصانع الأسمنت، ما يتطلب الاستعانة بتقنيات أخرى لتحقيق هدف تقليل الانبعاثات.
متطلبات تحول الأسمنت لصناعة خضراء
تتوقع وكالة الطاقة الدولية، أن يرتفع إنتاج الأسمنت بنسبة 17% بحلول عام 2050، وهو ما يعكس أن الأسمنت والخرسانة سيستمران في أدوارهما الحالية كمواد بناء أساسية في عالم التشييد.
وفي كل عام، يُنتج العالم أكثر من 4 مليارات طن من الأسمنت عبر قرابة 4 آلاف مصنع منتشرة في دول مختلفة، ويسهم هذا الإنتاج في تصنيع نحو 30 مليار طن من الخرسانة.
وهناك محوران أساسيان في عملية تصنيع الأسمنت؛ الأول يتمثل في التحويل الكيميائي للمواد الخام في صناعة الأسمنت، الذي يمثل نحو 60% من إجمالي انبعاثات الصناعة التي لا توجد حلول عملية لتلافيها حتى الآن.
ولم تتغير عملية تصنيع الأسمنت تقريبًا منذ أن طُوّرت لأول مرة، باستثناء زيادة كفاءة الطاقة المستخدمة في أفران الأسمنت التقليدية.
وحققت أفران الأسمنت التقليدية بالفعل كفاءة طاقة تزيد على 60%، ومن غير المرجح أن تحقق ترقيات كبيرة بعد هذا المستوى.
ولكن قد تكون هناك حلول أخرى تعمل على تعظيم الاستفادة من الحرارة المستخدمة في تلك الصناعة، من بينها استغلال الحرارة المتبقية في الأفران في عمليات صناعية أخرى، أو تدفئة المنازل المجاورة لمصانع الأسمنت من خلال بناء شبكات تدفئة.
ومن بين الوسائل الأخرى لتقليل الانبعاثات في صناعة الأسمنت، استخدام كمية أقل من الكلنكر الذي يعد مكونًا أساسيًا في تصنيع الأسمنت، وهو كثيف الكربون للغاية، ويشكل 90% من إجمالي انبعاثات الأسمنت.
ويمكن استبدال الكلنكر جزئياً بمواد أسمنتية تكميلية، مثل الرماد المتطاير من محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم ومخلفات أفران الصهر من صناعة الصلب في حال قرب تلك القطاعات من مصانع الأسمنت.
وحتى الآن لا توجد حلول تجارية موجودة يمكنها استبدال الكلنكر تمامًا على نطاق واسع.
ومع ذلك، هناك عدد من الطرق المثبتة لتقليل كمية الكلنكر اللازمة لصنع الأسمنت والخرسانة بشكل كبير، وأحد أكثر الحلول الواعدة يسمى إل سي 3، أو أسمنت الطين الجيري المحروق، ويمكن أن يقلل من انبعاثات الكربون بنحو 40% مقارنة بالأسمنت التقليدي.
إلى جانب الفحم والنفايات، يمكن دمج أنواع أخرى من الوقود لتوليد الحرارة في صناعة الأسمنت، ومن بينها استخدام الكتلة الحيوية، وهي مصدر مستدام للوقود، ولكن ما قد يحد من استخدام هذا الوقود القيمة الحرارية المنخفضة له.
كما يمكن أن يؤدي تبني مبادئ الاقتصاد الدائري إلى تقليل الطلب على الأسمنت بشكل كبير، ويشمل ذلك تحسين التصميمات الهيكلية للمباني بما يقلل من الخرسانة، وإنشاء بنية أساسية يمكن تفكيكها بسهولة لإعادة الاستخدام أو التدوير.
احتجاز الكربون يمثل فرصة كبيرة
منذ سبعينيات القرن الماضي، ظهرت طرق تكنولوجية جديدة، تُعرف باسم تقنيات احتجاز أو تخزين الكربون.
وتتضمن العملية جمع الانبعاثات بهدف حقن ثاني أكسيد الكربون النقي، وتخزينه في عمق الأرض في كهوف صخرية لإبعاده عن دورة الكربون التي تسهم في تسخين كوكب الأرض.
وفي حال تنفيذ تقنية احتجاز الكربون وتخزينه بشكل واسع في قطاع الأسمنت، فإن انبعاثات الأسمنت قد تنخفض بنحو 85%، فيما ستزيد تكلفة الإنتاج بنسبة 10%، وهو ما يعد إنجازًا كبيرًا للبيئة.
لكن هذه التقنية تواجه تحديًا كبيرًا أيضًا، نظرًا لكونها لا تشكل حلًّا عمليًّا لكل مصانع الأسمنت بسبب اختلاف مواقعها.
فمثلًا وجود مثل تلك المصانع في مناطق ساحلية يخفض من تكلفة نقل الكربون مثلما الأمر في العديد من المصانع بالقارة الأوروبية، ما يسمح بنقل الكربون إلى مواقع التخزين عبر النقل البحري الذي يتمتع بكون تكلفته زهيدة.
ومن المرجح أن تكون هذه المواقع هي الأولى التي تطبق تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه.
ولكن الأمر ليس بهذه السهولة في باقي المصانع التي تقع بعيدًا عن التجمعات الصناعية، أو لا تتوافر بالقرب منها موانئ أو خطوط أنابيب لنقل الكربون، إذ ستضطر حينها لاستعمال الشاحنات من أجل عملية النقل، ما سيزيد من التكاليف وانبعاثات الكربون جراء استخدامها.
وأصبحت مدينة بريفيك للشحن في النرويج أول موقع في العالم به مصنع أسمنت يتضمن تقنية احتجاز الكربون وتخزينه.
وبدأ تركيب منشأة احتجاز الكربون، التي يبلغ ارتفاعها 100 متر، في مصنع أسمنت هايدلبرج ماتيريالز في أغسطس الماضي، ومن المقرر أن يكتمل المصنع بحلول نهاية عام 2024.
ووفقًا لخطط المصنع، فإن المنشأة ستقوم باحتجاز ثاني أكسيد الكربون من عملية إنتاج الكلنكر، ومنع انبعاث الغاز إلى الغلاف الجوي، ليُخزّن الكربون بشكل آمن تحت الأرض في بحر الشمال.
إنتاج الأسمنت الخالي من الانبعاثات
واتفقت العديد من البلدان في مؤتمر المناخ "كوب 28"، الذي عُقد في دبي العام الماضي، على إطلاق مبادرة تسعى إلى إنتاج أسمنت خالٍ من الانبعاثات تقريبًا، والعمل على نشره في كل منطقة من مناطق العالم بحلول عام 2030.
ولكي يصبح هذا الهدف حقيقة واقعة، سيكون التبني واسع النطاق لعمليات إنتاج الأسمنت والخرسانة المبتكرة أمرًا ضروريًا، وإلى جانب احتجاز الكربون هناك العديد من التقنيات التي يمكن من خلالها الوصول إلى هذا الهدف.
ويعد استخدام الهيدروجين وقودًا لتوليد درجات الحرارة المرتفعة اللازمة لتصنيع الأسمنت، وسيلة أخرى للوصول إلى هذا الهدف.
ومن الناحية النظرية، يمكن للهيدروجين الأخضر أن يحل محل الفحم والنفايات البلاستيكية كمصدر لتوليد تلك الحرارة، ما قد يقلل من انبعاثات الأسمنت الإجمالية بمقدار الثلث.
ومع ذلك، هناك تحديات كبيرة أمام استعمال الهيدروجين الأخضر في صناعة الأسمنت، على رأسها تكلفة الإنتاج التي من المتوقع أن ترتفع للضعف في حال تبني تلك التقنية، كما أنه حاليًا لا تتوافر الكمية المناسبة من الهيدروجين الأخضر لتلبية متطلبات الطاقة الهائلة بهذا القطاع.
ويرى الخبراء أنه في الوقت الحالي يمكن الجمع بين تقنية احتجاز ثاني أكسيد الكربون وحقنه في تصنيع الخرسانة، من أجل الحد من الانبعاثات بهذا القطاع، إذ تعمل هذه العملية الكيميائية على تضمين الكربون بشكل دائم في إنتاج الخرسانة المنتج النهائي الرئيسي للأسمنت.
ومن شأنها أن توفر مثل تلك الحلول إضافة عملية في صناعة الأسمنت والخرسانة من أجل جعلها خالية من الكربون في المستقبل.
وهناك أمثلة حية للتحول الأخضر في هذا القطاع، على رأسها شركة سيمكس المكسيكية، إذ تعد واحدة من الشركات الرائدة التي بدأت تطبيق ممارسات أكثر استدامة.
وتعمل تلك الشركة على تطوير "أسمنت منخفض الكربون" باستخدام تقنيات مبتكرة، مثل استبدال جزء من المواد الخام التقليدية بمكونات غير تقليدية مثل الرماد المتطاير، الذي يأتي من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم.
كما تسعى لتطبيق تجربة احتجاز الكربون لتخزينه أو استخدامه في صناعات أخرى.
وبدأت شركة لافارج هولسم الفرنسية، التي تركز أيضًا على التحول إلى الصناعة الخضراء، بتبني تقنيات حديثة في إنتاج الأسمنت مثل "أسمنت الأفران الكهربائية" الذي يتميز بانخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
كما تعمل الشركة على تطوير مواد بناء صديقة للبيئة، مثل "أسمنت الخلايا الجافة"، الذي يعتمد على مواد محلية ومتجددة.
ورغم هذه التحولات المثيرة، تواجه صناعة الأسمنت عدة تحديات رئيسية في عملية التحول إلى صناعة خضراء، منها تكاليف الاستثمار، إذ تتطلب التقنيات الجديدة غالبًا استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتقنيات.
في حين لا تزال العديد من التقنيات المقترحة، بما فيها احتجاز الكربون، قيد البحث والتطوير وتحتاج إلى وقت طويل قبل أن تتمكن من إحداث تأثير بشكل حاسم في تقليص الانبعاثات.
ويشير الخبراء إلى أن التحول الكامل لصناعة الأسمنت إلى صناعة خضراء قد يحتاج إلى عقود من الزمن، لكن التوجهات العالمية نحو الاستدامة والضغط المتزايد للحد من الانبعاثات البيئية قد يسرعان من هذه العملية.
كما أن سعي الحكومات لتحقيق أهدافها في الحد من التغيرات المناخية قد تقدم حوافز لتشجيع مثل هذه التحولات، بما فيها السياسات الضريبية أو برامج الدعم المالي للشركات المتبنية للتقنيات الخضراء.
المصادر: أرقام- بي بي سي- بنك أي إن جي الهولندي- فوربس- ستاتيستا- سيمكس- ساينس دايركت- منتدى الاقتصاد العالمي
أكبر الدول المنتجة للأسمنت في العالم خلال عام 2023 | ||||
الترتيب |
| الدولة |
| حجم الإنتاج (بالمليون طن متري) |
1 |
| الصين |
| 2100 |
2 |
| الهند |
| 410 |
3 |
| فيتنام |
| 110 |
4 |
| الولايات المتحدة |
| 91 |
5 |
| تركيا |
| 79 |
6 |
| إيران |
| 65 |
7 |
| البرازيل |
| 63 |
8 |
| إندونيسيا |
| 62 |
9 |
| روسيا |
| 57 |
10 |
| السعودية |
| 53 |